طائر بحر “تشيخوف” يحّطُ على مسارح لندن!

رؤى متجددة وأطنان من الحب (*)

لمخرجة كايتي ميتشيل : إذا كان الحب يجلب البهجة والشقاء في آن، فبوسعه أن يجلب الشجاعة والقوة أيضاً

 مدفيدينكو: لماذا ترتدين السواد دائماً يا ماشا؟

ماشا: إنني أرتدي السواد حداداً على حياتي لأنني لست سعيدة.

علي كامل : لندن                             

لا شك أن البعض يستمتع برؤية اللوحات الزيتية القديمة وهي محملّة بطبقات صلدة من الطلاء والأتربة التي تراكمت فوقها عبر كل تلك السنين، والبعض الآخر يشعر بمتعة أكثر حين يراها وقد أزيل عنها كل ذلك الطلاء وتلك الأتربة لتبين ألوانها الأصلية ثانية. وهكذا فالبعض يحبها طرية فيما الآخر يرى في ذلك فقداناً لأصالتها.

علي كامل

الكاتب الدرامي مارتن كريمب الذي قام بإعادة كتابة وإعداد جديدين لـ “طائر البحر” تعامل مع النص التشيخوفي تعاملاً يشبه إلى حد ما عمل أولئك الذين يقومون بترميم اللوحات الزيتية القديمة، فهو والمخرجة كايتي ميتشيل (**) قد أحبا معاً رؤية النص مرمّماً ومجدّداً، فقد حاولا إزالة أي شيء بوسعه خلق دلالة ما ترتبط بالماضي البعيد جداً، إلا أنهما حاولا في نفس الوقت إقصاء ما يباعد بين أولئك الناس الذين عاشوا آنذاك والناس الذين يعيشون الآن بين ظهرانينا.

إن القيام بإعادة كتابة النصوص القديمة وإعدادها مع ما يتناسب ومتطلبات الزمن الراهن لا يعني تغيير مضامينها على الإطلاق، إنما هو محاولة لاستبدال مظهرها القديم بآخر جديد حيٌّ ومعاصر. ولأجل تحقيق هدف كهذا شرع المُعّد والمخرجة بحذف الكثير من التأثيرات السردية للحوارات المتراخية تلك المتمثلة بالمونولوغات الداخلية المسهبة والأحاديث الجانبية الموجهة إلى الجمهور مباشرة والتي أصبحت بمثابة الميت الذي يمسك بالحي.

إن إحداث هزة قوية بوسعها أن تعصف بفضاءات تشيخوف الكسلى لإيقاظ شخصياته المتثائبة أبداً تطلبّ من المُخرجة خلق بنية جديدة وشكل مبتكر لتقويض ذلك العالم الخدِر الآفل وتفجير سكون المكبوت من الرغبات السجينة في أعماق شخصيات النص الرئيسية والثانوية على حد سواء.

أما الفعل الأكثر جرأة ومشاكسة فهو نقل المُعدّ لزمن الأحداث، كرونولوجياً، من نهاية القرن التاسع عشر إلى ثلاثينات القرن الماضي، وتعليل ذلك، كما يبدو، كان يراد منه ردم تلك الفجوة الزمنية الشاسعة التي تفصل ما بين القرن التاسع عشر وقرننا الحالي، إن لم يكن ما وراء ذلك تلميحاً لنقد ما أو إسقاط سياسي على المرحلة السوفييتية آنذاك. وقد تطلّب هذا بالطبع تغييرات في الملابس والإكسسوار والتصميم السينوغرافي ومصادر الضوء بما يتناسب والفترة الزمنية المقترحة هدفاً في تشييد جسر يربط ما بين المظاهر التي كانت شائعة عام 1893 وتلك التي سادت في ثلاثينات القرن العشرين، كأجهزة التسجيل والمايكروفونات والإضاءة الكهربية مثلاً، أو المعاطف المطرية البلاستيكية والأحذية ذات الكعوب العالية، وما إلى ذلك. فمفارقات تأريخية كهذه في حقيقة الأمر هي إحدى الأساليب التي يمكن من خلالها إنعاش وتجديد الصورة الذهنية والبصرية للعالم الشفاهي للكلمات التشيخوفية، فالنص الجديد الذي تجسد أخيراً على خشبة مسرح (ليتلتون)، عملياً، أصبح أقصر بكثير من النص الأصلي، فضلاً عن أنه نحيل وحاد الزوايا.

بمعنى آخر، إن انطباعنا الدائم والسائد عن تشيخوف، بوصفه كاتباً شعرياً ورومانتيكياً، يتعرض هنا إلى موقف مخالف تماماً. فبدلاً من ذلك الانطباع الثابت عنه نكتشف وعبر رؤية هذا العرض أن ثمة عنف وقساوة وإساءة وجور في مضمون المسرحية، وهذا ما يمكن أن نستشفه عبر رنين ومغزى العنوان ذاته والذي كان على الأغلب محجوباً من قبل أو غير مثير للانتباه أو التأويل.

دلالات طائر البحر ورموزه

طائر تشيخوف في رؤية هذا العرض ليس طائراً يحلق فوق مكان الأحداث أو في خلفيتها فحسب، إنما هو بمثابة رمز يجمع ويراكم المعنى وفقاً لسير وتطور تلك الأحداث، فضلاً عن التغييرات التي تطرأ على ذلك المعنى بين الحين والآخر. فحين تُشبّه نينا طفولتها التي أمضتها في ضيعة سورين بصورة ذلك النورس الذي ينجذب نحو تلك البحيرة، يأخذ رمز الطائر دلالة تتماهى ومفهوم الحرية والطموح الإنساني، لأن طائراً كهذا مرتبط بقوة البحر وسعته التي لا تؤطرها حدود.

أما حين يقتل كوستيا ذلك الطائر ويقدمه لنينا على مائدة الطعام قائلاً لها بأنه سيموت هو ذات يوم من أجلها بنفس الطريقة، عندئذ يصبح المغزى أشبه بنبوءة تتجسد واقعياً فيما بعد في انتحاره، إن لم يكن تلميحاً بموت علاقة الحب بينه وبين نينا.

أما عندما تخبر نينا الكاتب تريجورين بموت الطائر فإن ذلك الخبر يلهمه فكرة كتابة قصة قصيرة حيث يقول لها معلقاً: إنها فكرة رائعة حقاً لكتابة قصة. قصة تتحدث عن فتاة سعيدة وحرّة مثلك، تعيش قرب بحيرة، وتحب تلك البحيرة مثل طائر النورس. وذات يوم يأتي شخص ما فجأة ويراها فيقضي عليها كما قضى على النورس من قبل”. 

حين يُشبّه تريجورين موت النورس بموت فتاة تشبه نينا، فإن هذه الصورة تبعث الحيرة والاضطراب في كيان نينا، موحية لها أنها مقبلة حقاً نحو مصير مأساوي كهذا، وهو ما سيصبح فيما بعد تسويغاً لعلاقتها الجديدة بتريجورين، كنوع من الخلاص، تلك العلاقة التي ستُقصي قسطنطين من مثلث الحب تماماً.

أما فكرة القصة الفانتازية تلك فستصبح في الآخِر نبوءة مرعبة بالفعل، حين تتحقق عبر زيجة نينا المحبطة بتريجورين الذي سيهجرها بعد حين ويعود ثانية لأركادينا.

إنَّ صورة نينا وهي مهجورة ووحيدة، تكاد تتماهى تماماً وصورة طائر النورس المحنَّط والمحفوظ في حقيبة سفر في منزل سورين.

وهكذا ومن خلال سير الأحداث وتواترها تتغير دلالات موت ذلك الطائر ورموزه لتصبح في الآخر مجازاً مكثفاً لتحطم الأحلام.

البحيرة هي الأخرى تحمل أكثر من مغزى وتأويل، فهي المكان الذي يشيّد كوستيا على شاطئها مسرحه التجريبي الصغير لعرض مسرحيته البِكر، والذي يمكن أن يلمّح إلى تطلع تشيخوف نفسه وبطله كوستيا معاً لنقل المسرح من القاعات التقليدية المغلقة والمحدد بثلاثة جدران إلى مسرح يسبح في الهواء الطلق، مسرح أكثر حرية وطبيعية.

والبحيرة هي مكان للراحة والهروب والتأمل أيضاً، فتريجورين يتوجه نحوها لصيد الأسماك، وكوستيا يلجأ إليها للتفكير والتأمل بأناه الجريحة ربما. أما بالنسبة لنينا فالبحيرة هي أشبه بعنصر جذب لها كالمغنطيس، فضلاً عن أنها تمثل بالنسبة لها أيضاً نوعاً من الفضول لتأمل واستكشاف طفولتها، فهي تقول لتريجورين بأنها تعرف كل الجزر الصغيرة فيها، في حين يقول كوستيا لها بإن فقدانه لحبها يمنحه إحساس بأنه أشبه ببحيرة غارقة في الأرض، أو إحساس بفقدان مكان عزيز إلى نفسه، مكان مفعم بالدفء والأمن والتجدّد. والبحيرة في الآخِر هي مجثم للطيور ومنزل لمن لا مأوى له ومكاناً للراحة والنوم والشعور بالاطمئنان.

الرؤية الأخراجية

لغرض إضاءة ثيمات النص ورسم معالم الشخصيات وأبعادها لجأت المخرجة إلى الغوص عميقاً في دراسة حياة تشيخوف وفلسفته وفقاً لمنهج ستانسلافسكي في الكشف عما وراء النص وتحليل أبعاد الشخصية وإعداد الدور المسرحي. وفي هذا الشأن تقول المخرجة:

“الجميع يعرف أن تشيخوف كان يومها طبيباً وقد كتب مسرحيته في لحظات كان يدرك فيها تماماً أنه سيموت قريباً، لذا يمكن القول أنها كتبت بعين جدلية عديمة الرحمة أظهر الكاتب من خلالها كيف أن الناس آنذاك كانوا يقولون شيئاً ويعنون شيئاً آخر. أو، كيف يمكن لحديث حميمي بين أم وولدها وهي تعالج له جرحه إثر عملية انتحار يمكن أن يخرج عن التحكم بمساراته ليتحول إلى حديث يضمر ضغينة ساخرة ولاذعة.

كان تشيخوف يعرف أنَّ امتلاك الناس لأفكار متضاربة في رؤوسهم بوسعه أن يؤدي إلى سلوك مربك ومشوش. وكان يدرك أيضاً أن الناس يمكن أن يكونوا قساة في التعامل مع من يحبونهم حين يتلاشى ذلك الحب من نفوسهم.

ليس ثمة شيء رومانتيكي أو وجداني إذاً هنا حول الطريقة التي رسم تشيخوف بها شخصياته أو كيفية التعامل مع بعضهم الآخر.

فلنتساءل هنا عن الذي أفادنا به تشيخوف بشأن سبر أغوار شخصية الكاتب تريجورين مثلاً؟

إن المعلومات التي قدمها لنا تشيخوف عنه شحيحة جداً بالطبع، إلا أن العودة لدراسة حياة تشيخوف وتفحصها بدقة تمنح الممثل الذي سيلعب دور تريجورين مفاتيح لمعرفة مغاليق خلفية هذه الشخصية وثقافتها!.

أو لنتساءل عن الفوائد التي يمكن أن تأتينا من دراسة الوضع الصحي لتشيخوف نفسه آنذاك، لمعرفة المشاكل الصحية التي كان تعاني منها شخصية الدكتور دورن مثلاً..؟

معروف أن تشيخوف كان يعاني من مرض السل الرئوي حين كتب هذه المسرحية، لذا يمكن لهذا الأمر أن يزودنا بمعلومة تفيد أن دورن يمكن أن يكون مصاباً بمرض السل هو الآخر، ويمكننا التدليل على ذلك عبر ما تقوله بولينا من أن الهواء البارد سيء بالنسبة له، أو من خلال تباهيه هو نفسه من أنه يريد أن ينفق جل مدخرات حياته في رحلة إلى أوروبا، والتي يمكن أن نفهم منها إلى أنه كان يدرك تماماً أنه مقبل على الموت”.

متابعة سيرة حياة الكاتب بهذه الدقة أوصل المخرجة أيضاً إلى استنتاجات بصرية تتعلق بمكان أحداث المسرحية أيضاً: “مكان المسرحية” تقول كايتي “هو عبارة عن ضيعة نائية تدعى (غوركي) تقع إلى جوار بحيرة طولها عشرة أميال خارج حدود مدينة “بولوغا”، في منتصف المسافة الفاصلة بين موسكو وسانت بطرسبورغ. إنها تبعد كثيراً عن البحر، وهي ذات الضيعة التي زار فيها تشيخوف صديقه الرسام إسحاق ليفيتان في صيف عام 1895(***) حيث كان يقيم مع مدبرة منزله صوفيا كوفشيننكوفا، وقد كان تواً قد نجا من محاولة انتحار بمسدس”.

لتشييد بنية العرض المسرحي شطرت المخرجة نصها الجديد إلى ثلاث ثيمات تتحرك بشكل متوازي:

(1)   أن تكون فناناً وعاشقاً في نفس الوقت.

(2)   النزعة الأوديبية في علاقة الأم والأبن والعشيق.

(3)  الأحلام المحطمة والحب غير المتبادل.

أما الخيط الرفيع الذي يدخل في نسيج هذه الثيمات الثلاث فهو النزاع المزمن بين الجديد والقديم، بين الحي والميت.

أن تكون فناناً وعاشقاً في نفس الوقت!

ثمة خيط رفيع يربط ما بين موضوعتي الحب والفن في رؤية عرض مسرحية (طائر البحر)، فأركادينا الأم ممثلة، كذلك نينا، أما تريجورين وكوستيا فهما كاتبان،الأول روائي والثاني مسرحي، والأربعة جميعاً عشاق.

أركادينا (الممثلة جوليت ستيفنسون) توظف مهنتها، كممثلة، لتسويغ نرجسيتها وزهوها واستخدامها جسراً لتحقيق رغباتها العاطفية في علاقتها بتريجورين (الممثل مارك بازلي)، أو ربما لمقاومة إحساسها المفزع بسن اليأس والأفول، فيما نرى نينا (الممثلة هاتي موراهان)، كممثلة، تعزز فن التمثيل كنوع من الطقس الروحي تمنحه قدسية وتضحية ونبلاً حتى وأن تطلّب ذلك إقصائها لحبيبها كوستيا (بن ويشو) والاقتران بكاتب في متوسط العمر مثل تريجورين.

أما كوستيا فنراه يشل نفسه تماماً وبشكل مكره في تحقيق أن يكون فناناً وعاشقاً في ذات الوقت، فيما نرى تريجورين، في المقابل، يوظّف التفاصيل الثانوية من حياته الشخصية وحياة المحيطين به مادة ً لكتاباته دون أن يجيز للعمل أو المهنة أن تؤثران سلباً على مسيرة حياته.

الشخصيات الأربعة، بكلمة موجزة، تكافح وبدرجات متفاوتة من أجل تحقيق ذواتها في ميدان الأدب والفن، لأنهم يرون أن في إحرازهم إعجاب واحترام الآخرين عبر هذا الميدان هو تعزيز لأنواتهم. فكوستيا مثلاً يتوق إلى أن يحرز إعجاب الآخرين بشخصيته وموهبته معاً، ويبدو أن النجاح في كلا الميدانين، الحب والفن، هو بالنسبة له شيء مهم ومتساوٍ، على الرغم من فشله في كليهما!. فاعتداده بنفسه، ككاتب، يُجرح من قبل أمه، وكعشيق وإنسان، يُخذل من قبل حبيبته نينا. أما تريجورين فهو يتمتع بثقة بالنجاح في مهنته ككاتب، على الرغم من أنه شخصياً غير مقتنع بذلك ويرى أنه مكره على الكتابة في بعض الأحيان، وهذا ما نلمسه في قوله: “ينبغي عليَّ دائماً أن أبدأ بكتابة قصة جديدة حال انتهائي من إنجاز قصتي القديمة”!. أما في ميدان الحب، فهو مقتنع تماماً بحبه لنينا، لأنه يحس أن ذلك الحب يمكن أن يكون بديلاً أو معادلاً لمغزى الكمال الذي يفتقر إليه عادة في علاجه لموضوعات الحب في الكتابة، فضلاً عن أن هذه العلاقة يمكن أن تعوضه عما فاته من علاقات حب لم يستطع أن يمارسها في فتوته بسبب انشغاله التام في الكتابة. بمعنى آخر، القناعة التي يحرزها أشخاص كهؤلاء في أنهم فنانون تصبح معادلة تماماً لمشاعرهم في أن يكونوا محبوبين أيضاً.

مثلث الحب الأوديبي

أما بشأن مثلث العلاقة بين الأبن والأم والعشيق فثمة تلميح جلي في العرض لما يسمى في علم النفس بعقدة أوديب. فالعلاقة التي تربط كوستيا بوالدته تكاد تتماهى وعلاقة أوديب الملك بأمه، أو علاقة الأمير هملت بوالدته، وهي علاقة غيرية إيروتيكية، حسب بعض التأويلات. فالعرض المسرحي الذي يقدمه هملت أمام والدته وعمه الملك في القصر (مسرح داخل المسرح) يتكرر هنا من قبل كوستيا في عرضه لمسرحيته التجريبية أمام أركادينا وعشيقها تريجورين قرب البحيرة، فضلاً عن أن النص التشيخوفي ذاته يتضمن الكثير من الحوارات المقتبسة أصلاً من هاملت شكسبير.

لابد من التشديد هنا من أن ثمة مشتركات بين خصال الشابان هاملت وكوستيا بمقدورها تسويغ إبراز فكرة كهذه، فكلاهما مفرط في حساسيته وكآبته، وكلاهما غير موفّقٌ في علاقته العاطفية أيضاً، والإثنان يتمتعان بإيمانٍ كبيرٍ بقدرات المسرح، على الرغم من أنه إيمان مشوش، وأخيراً كلاهما يتيم الأب ولديه شعور بغيرة خفيّة وربما إيروتيكية نحو الأم وعشيقها في (طائر البحر) وبين الأم وزوجها في (هاملت). ففي مسرحية شكسبير تتزوج جرترود أُم

هاملت من عمه كلوديوس (قاتل أبيه)، وفي طائر البحر ترتبط أركادينا، أُم كوستيا، بعلاقة عشق بغريمه الكاتب تريجورين.

إن إبراز مثلث العلاقة بين الأم والأبن والعشيق استطاع أن يشحن حبكة العرض بطاقة درامية أكبر لأنه كشف من خلالها عن سمات الشخصية العصابية القلقة والعاجزة تماماً عن تجاوز الصدمة المبكرة أو نسيان الماضي، وأعني بها شخصية كوستيا.   

 الممثل بن ويشو الذي كان قد لعب دور هاملت قبل سنتين على خشبة مسرح OLD VIC يستعيد في دوره الجديد، تلك الذكرى الجميلة ثانية. بن ويشو يلعب هنا وبشكل رائع دور الكاتب الشاب المضطرب المثالي الشديد الحساسية والمتقلب المزاج الذي يتمتع برؤية جادة ومشوشة في ذات الوقت عن فن المسرح. إنه كاتب مجهول وشخص مفلس ممزق وغير محبوب يصارع وبضراوة من أجل ترسيخ أسلوبه الجديد في الكتابة. في علاقته بنينا بدى لنا كما لو أنه شاب لم يستمتع بفترة مراهقته ونضجه، أو من الممكن أن يكون ممسوساً أو يعاني من كآبة مستفحلة بشكل خطير. أما حبه العصابي والملتبس لأمه فيكاد يعادل حبه غير المتوازن لحبيبته نينا وكلاهما يضعانه في موضع العبد.

إن إحدى مخاوف كوستيا الكبرى هي شعوره المضخم بازدراء والدته له كشخص غير مميّز وكاتب لا قيمة له مقارنة بتريجورين العشيق والكاتب، وهذا هو ما يفجّر إحساسه العميق بالغيرة والحسد والفقدان والغضب إزاء غريمه تريجورين، مؤسساً لفكرة مثلث الحب الملتبس أو (مثلث الحب الأوديبي) وأعني به مثلث العلاقة بين الأم والأبن والعشيق.

إنني أخالف رؤية المخرجة وتفسيرها لهذه العلاقة بالطبع، وأعود لأؤكد على أنَّ علاقة الحب بين كوستيا ووالدته ليست علاقة إيروتيكية بقدر ماهي تعكس حاجة كوستيا إلى حنان الأمومة والحب التي يفتقدها في أمه والتي لم تمنحها أركادينا له. هذا التوق أو الشوق لحنان الأم هو الذي يضعه في منافسة غير متكافئة، بل وخاسرة مع تريجورين.

 بإمكان أركادينا أن تلعب دور الأم بشكل رائع وجميل بالطبع، إلا أن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا حين يكون الابن تحت هيمنة الأم (الميت الذي يُمسك بالحيّ).. وهذه هي المعضلة.

جوليت ستيفنسون (التي لعبت دور أركادينا) هي ممثلة ممسوسة حقاً، ولديها القدرة على ملامسة قعر الشخصية التي تريد تجسيدها بيسر. ففي طريقة تعاملها مع ولدها كوستيا ظهرت لنا كأنها تتأرجح بين القسوة المعلنة والإثم المستتر الذي يقود إلى الندم، فهي تحب كوستيا وتمقته في ذات الوقت. تحبه لأنه ولدها، وتزدريه بسبب عنفوانه وطموحه الذي يذكرّها بكهولتها وأفول نجمها وزوال عالمها. الشيء الذي يؤخذ على ستيفنسون وهي تجسد هذه الشخصية أنها أظهرت أركادينا وديّة وشفوقة جداً وهذه مجازفة ومخالفة للنص التشيخوفي تماماً.

أما بن ويشو (الذي لعب دور كوستيا) فقد جسّد بحساسية هاملتية شخصية هذا الشاب العشريني في محاولته العابثة لإحداث صدع في البناء النرجسي لوالدته، هدفاً في انتزاع شيء من ذلك الحب الذي هو بحاجة إليه مثل طفل صغير.

الأحلام المحطَّمَة

لا توجد شخصية تشيخوفية تخلو من التذمر أو الشكوى، سواء كان ذلك بسبب الملل، أو سكون الريف، أو فقدان الحب المتبادل أو غياب الحنو العائلي، أو بسبب الزيجات الخائبة أو مخاوف سن اليأس أو الافتقار إلى الشهرة أو خيبات الأمل الأخرى.

الشخصيات جميعها تحلم بواقع شعري إلا أن تلك الأحلام تتقوض حال ملامستها الواقع اليومي.

مثلثات الحب تتشيد وتتهدم في ذات اللحظة لتكشف عن خواء وامتلاء روحيان مغلقان لا يلتقيان، عن حب من طرف واحد، حب غير متبادل. فماشا تحب كوستيا وكوستيا يحب نينا، نينا تحب تريجورين وتريجورين عشيق لأركاديا، بولينا تحب الطبيب دورن ودورن يحب العزلة والوحدة والعزوبية. علاقات حب أشبه بخطوط متوازية لا تلتقي مطلقاً، آمال خائبة وأحلام محطمة. كوستيا سينتحر ونينا ستصاب بالجنون، مثل أوفيليا، بعد طلاقها من تريجورين وموت طفلها. بولينا ستعود لزوجها شمرايف حزينة بعد علاقتها الخائبة بدورن، كذلك تريجورين فهو الآخر سيعود إلى أركادينا مثل عودة سجين إلى سجنه. أما أركادينا الأم والعشيقة وحجر زاوية العرض فستصبح ضحية للندم والشعور بالإثم إزاء فقدان ولدها الوحيد كوستيا. صرخة جوليت ستيفنسون المفزعة في نهاية العرض إثر سماعها بانتحار كوستيا لم تكن صرخة، بل عواء. وأخيراً ماشا، ماشا التي ستغرق في بحر الكحول علها تنسى. وهكذا تعود المسرحية إلى البدء حيث منزل سورين المعتم والكئيب، كما لو أننا كنا نشهد حلماً أو كابوساً يتلاشى فجأة لحظة اليقظة.     

                                         ملاحظات أخيرة خاطفة ومختزلة 

ـ الديكور الذي صممته فيكي مورتيمر لا يشير إلى أي مكان محدد، فهو لم يكن بيتاً ريفياً قبل الثورة الروسية، كما في النص التشيخوفي، إنما هو عبارة عن باحة فسيحة خربة داخل بناية مهجورة جدرانها عارية متآكلة يتساقط طلاء الجدران من سقفها شبيهة بمنزل عتيق أو مكان منسي.

المصمّمة تكرر أسلوبها السينوغرافي لمسرحية (إفجينيا في أوليس) مرة أخرى والذي سبق لها أن صممته لعرض المخرجة كايتي ميتشيل منذ عامين والذي تتمحور وظيفته في إخلاء فضاء المسرح من الأثاث والإكسسوارات المسهبة هدفاً في إقصاء الهوية الزمانية والمكانية للنص ولإضفاء بُعداً إنسانياً كونياً عليه، فضلاً عن أن ديكور كهذا يمكن أن يمنح جسد الممثل فسحة أوسع للتعبير والارتجال والحركة.  

الشيء الذي أثار إعجابي حقاً هو دقة تنفيذ المسرح الدوار وانسيابية حركته على خشبة المسرح والذي قد شُيدّ في مقدمة المسرح لغرض عرض مسرحية كوستيا التجريبية. 

لقد اندفع المسرح الدوار نحونا بشكل مفاجىء ومفزع مستديراً استدارة كاملة تقريباً حتى أحال القاعة التي نجلس فيها إلى بحيرة، فأصبحت وجوه جمهور المسرحية في مواجهتنا (أعني جمهور مسرحية كوستيا ـ الممثلون) فيما أصبح ظهرْ نينا نحونا. (مسرح داخل المسرح).  

والآن، يمكن لنا أن نتساءل لماذا إخطار المُعدّ عشرينات أو ثلاثينات القرن الماضي زمناً للأحداث؟ هل كان يُراد من ذلك نقد الفترة السوفييتية مثلاً والتلميح إلى أن الثورة لم تُغيّر شيئاً من الضيعة الريفية الخربة لسورين؟ أم أنه أراد من ذلك ردم الهوة الزمنية بيننا وبين زمن الأحداث؟

في حوار نصه الجديد، أدخل المُعّد مراجع صورية ولفظية تشير إلى الكولاك (أثرياء الفلاحين) والمزارع الجماعية والخطط الخمسية رغم أنها جميعاً كانت مقحمة وغير ضرورية. ثم لماذا هذا العدد الكبير من الخدم، رغم أن النص الأصلي يخلو تماماً من ذلك؟

كنا نرى أجزاءً من الطلاء المتآكل يتساقط من سقف المنزل على رؤوس ساكنيه أثناء الجري السريع للخدم لحظة دخولهم وخروجهم المتخاطف، وهم يفتحون الأبواب ويغلقونها بقوة.  مرة

أخرى، هل كان المقصود من ذلك كله القول إنه رغم قيام الثورة البلشفية إلا أن الخدم الموالون للأقطاع ما زالوا في الوجود؟ أم كان يُراد منه العكس، أن يكون مجازاً لحتمية تقويض ذلك القصر الروسي الخامل المتراخي الآيل إلى السقوط؟ وإذا لم يكن هذا ولا ذاك فهل هو تعبير عن الفوضى الداخلية للشخصيات؟

أعجبني أيضاً توظيف مصمم الصوت كريستوفر شات للمؤثرات الصوتية، فالطقس العاصف والريح الهائجة وموج البحيرة وهو يرتفع قبيل عودة نينا من موسكو، كله شارك في جلب نينا (الطائر) إلى البحيرة، متزامناً مع سقوط قِطع الدهان من السقف داخل تلك الغرفة الغائرة والشبيهة بكهف.

ينبغي ألا ننسى أن التغيير في الطقس هو مجاز أيضا للتغيير الذي سيجري لأحداث المسرحية لاحقاً، وأعني بالضبط انتحار كوستيا. الجدير بالذكر أن تشيخوف عُرف باختياره الدقيق لنوع الطقس ليعكس من خلاله التغييرات التي تطرأ على مسار شخصياته والتنبؤ بوقوع الأحداث لاحقاً.

المناخ الذي تخلقه المُخرجة عموماً في معالجتها الجديدة مليء بالأمطار والرعود والعواصف، والذي جعل من سكنة منزل سورين مثقلين بالمعاطف المطرية الثقيلة والمظلات طوال الوقت.

لم أرَ من قبل عرضاً لطائر البحر تضج فيه رقصات التانكَو بإيقاعاتها المدببة الحادة والسريعة وسط سكنة منزل سورين المتراخين والمحبطين. إن استخدام المخرجة للتانكَو رقصاً وموسيقى وجعل شخصياتها تؤدي هذه الرقصة الأنيقة الرائعة بشكل مكرور زودّدت العرض بتعارض موسيقي دينامي لإيقاع العلاقات البطيئة المُعّذِبة والعسيرة الحل في المسرحية.

لقد وُظفت التانكَو رقصاً وموسيقى أيضاً كنوع من المونتاج والانتقال من مشهد لآخر، كما إنها أحدثت في نفس الوقت نقلات مفاجئة في طبيعة الشخصيات المتراخية ذاتها فأصبحت تلك الشخصيات كاريكاتورية تتقفز أشبه بالدمى المتحركة، فضلاً عن ذلك، كان لإيقاع الموسيقى المتواتر والمثير الفضل في التخفيف من بطء المشهد التشيخوفي وعبئه، ومن ثم بعث النشوة والحيوية والفرح في روح العرض.

أما توظيف موسيقى أوبرا (دون جيوفاني) لموزارت فقد كان موفّقاً جداً، فإغواء دون جوان للفتاة زرلينا وهجرها في الأوبرا يتماهى تماماً وإغواء تريجورين لنينا في المسرحية.

الشيء المميز الآخر للمخرجة كايتي هو توظيفها الفطن للإضاءة، فقد بدت وجوه الممثلين باهتة شاحبة نصف مضاءة تحوم ظلالها كالأشباح في أركان المكان المعتم جزئياً. يبدو أن كايتي أرادت تقديم تشيخوف ليس عَبر الألوان، أنما من خلال تدرجات الأبيض والأسود.

أخيراً، يمكن لك في مسرحيات تشيخوف أن تكون مرحاً وكئيباً في نفس الوقت، إلا إن عرض كايتي ميتشيل استطاع حقاً أن يُضفي شيئاً من العذوبة المنعشة إلى نفوسنا جعلتنا نغادر المسرح بحساسية تشيخوفية هزلية معتمة شفيفة وحزينة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هامش

(*)

المسرحية تعرض على قاعة مسرح ليتلتون (المسرح الملكي البريطاني))

ترجمة النص عن الروسية: هيلين رابابورت

إعادة كتابة: مارتن كريمب

إخراج: كايتي ميتشيل

(الممثلون)

جوليت ستيفنسون بدور إيرينا أركادينا

مارك بازلي بدور تريجورين

بن ويشو بدور قسطنطين تريبليف (كوستيا)

هاتي موراهان بدور نينا

ساندي ماكَداد بدور ماشا

جاستين سالنجر بدور ميدفيدنكو

كَاون كَرينجر بدور سورين

أنكَوس رايت بدور دورن

مايكل موراهان بدور شمراييف

ليز كيتِل بدور بولينا

موسيقى: سيمون ألِن

الصوت: كريستوفر شات

الأضاءة: كريس دايفي

تصميم الملابس: نيكي جيليبراند

تصميم الديكور: فيكي مورتيمر

مدرب الرقص والحركة: سيترون ليسلي

(استغرق العرض ساعتان ونصف الساعة)  

(**)

كايتي ميتـشيل ـ كاترينا جين) (1964)

مخرجة مسرحية بريطانية وفنانة خلاّقة تتمتع بمخيلة خصبة وحساسية جمالية مرهفة، فضلاً عن جرأتها المتميزة في مشاكستها للنصوص الكلاسيكية وتطويعها للزمن الراهن. تعمل كايتي بشكل متواصل ومتزامن كمخرجة ومدرّبة للتمثيل في أشهر مسرحين في لندن وهما (المسرح الوطني الملكي البريطاني) و (مسرح كورت الملكي). إنها تعمل مع عديد من الفرق المسرحية البريطانية لعل أبرزها فرقة شكسبير الملكية حيث قدمت عروضها الألِقة “الخال فانيا” لتشيخوف و”هنري الخامس” لشكسبير، و”الفينيقيات”  ليوربيدس (وقد حصلت هذه الأخيرة على جائزة “ستاندرد” كأفضل إخراج لعام 1996)

أما في مسرح “دونمار وورهاوس” فقد قدمت “نهاية اللعبة” لبيكيت والتي حصلت على جائزة (تايم أوت) هي الأخرى كأفضل إخراج لنفس العام.

استأنفت كايتي عروضها فيما بعد على مسارح عدّة منها مسرح كورت الملكي حيث قدمّت .Live like pigs   وThe Country مسرحيتان هما ،

 أما على خشبة المسرح الوطني الملكي البريطاني فقد أسهمت بعروض استثنائية عدّة أمثال “أورستيا” التي أعدّها الشاعر الإنكليزي تيد هيوز عن ثلاثية إيسخيلوس. ولهارولد بنتر أخرجت “لغة الجبل” و “من التراب إلى التراب” تبعتهما وعلى ذات المسرح بـ : “إفجينا في أوليس” ليوربيدس، و “لعبة الحلم” لسترندبيرغ ثم “الشقيقات الثلاث” و”إيفانوف” وحالياً “طائر البحر” لتشيخوف.

“طائر البحر” هذه تأتي تتمة لرحلة تأملاتها المتواصلة لثيمات تشيخوف وشخصياته، تلك الرحلة التي بدأتها ولم تنته منها بعد.

تقوم كايتي ميتشيل حالياً بالتدريبات على عملها الجديد (الأمواج) المقتبس عن رواية فرجينيا وولف، والذي سيعرض على خشبة كوتيسلو في المسرح الوطني الملكي البريطاني قريباً.

(***)

إسحاق ليفيتان) 1860ـ1900)

رسام المنظر الطبيعي الروسي الحزين ومبدع لوحة (البحيرة الصفراء) و (يوم خريفي في سوكولنيكي)، ذلك الفنان الذي كان ينبعث من قماشة لوحاته خريف موسكو الرمادي المُذهّب الحزين مثل حياته وحياة موسكو نفسها آنذاك.

 كان تشيخوف قد أُستدعيَ يوماً وبشكل عاجل إلى منزل ريفي يقع إلى جانب بحيرة لينقذ حياة صديقه الرسام ليفيتان الذي حاول إطلاق الرصاص على نفسه بحضور المرأة التي كان عليه أن يسدد لها ديوناً. وثمة حادثة واقعية أخرى تتحدث عن خروج تشيخوف وليفيتان يوماً لصيد الديوك البرية وقد أصاب ليفيتان يومها طائراً وقتله، وكانت ميتة ذلك الطائر قد تركت في نفسه حزناً شديداً.

لا يوجد بالطبع سجل مدوّن يذكر هذه الحادثة وتفاصيل تلك الزيارة، إلا إن من الواضح أن تلك الحادثة قد تركت أثراً واضحاً على النص، فضلاً عن إن أحداثه الأساسية تجري قرب بحيرة وتتضمن حالتي انتحار وفي المرتين ثمة مسدَّس.

Related posts

“هوراس” لكورناي… انتفاضة ضد حصانة المجرمين

مسرحية ( رقصة النسيج –  Neythe)..  الهوية الهندية والجسد المعاصر في نول الهُجنة

بغداد..  مدينة المسرح ومدار للتناسج الثقافي / ارسلان درويش