عرض مغربي يروي عطش الإنسان إلى الدفء والحبّ والبيت
من المغرب جاءت مسرحية «نَشرب إذَن» لتقدّم أنموذجًا راقيًا للمسرح الإنساني الصادق، القادر على أن يلامس القلوب والعقول في آنٍ واحد. عرض حمل وجع الواقع وهمّ الإنسان البسيط، وصاغ من الألم جمالًا ومن الحاجة قصيدة. اختيار هذا العمل من قبل إدارة مهرجان بغداد الدولي للمسرح يعدّ خطوة موفقة تُحسب لها، لأنه يفتح نافذة للمشاهد نحو معاناة حقيقية تعيشها الكثير من العائلات العربية في ظل ضيق العيش وغياب الاستقرار.
قضية تمسّ الواقع الإنساني
تدور المسرحية حول ثنائية الحرمان والحلم، الحاجة والكرامة، إذ تضعنا أمام بيت بسيط يضجّ بالأسئلة، وأمام رجلٍ وامرأة يواجهان الحياة بكل ما فيها من قسوة وتناقض. هذا الطرح الواقعي لم يكن عاديًا، بل جاء مفعمًا بالصدق النفسي والعاطفي، ما جعل الجمهور يرى نفسه في تفاصيل المشهد، ويتفاعل مع الشخصيات وكأنها امتداد لحياته الخاصة.
قوة الأداء وجمال التفاعل
قدّم الممثلان الرئيسيان أداءً مدهشًا جمع بين الصدق الداخلي والوعي الجسدي العالي، فكانت العلاقة بينهما صورة مكثفة لصراع الأزواج في مواجهة ضغوط الحياة. استطاعا أن يجسّدا مختلف مراحل العمر بعفوية وعمق، وأن ينقلا المشاعر المتناقضة بين الحب والخذلان، والدفء والاغتراب، في مشاهد حملت طاقة تمثيلية كبيرة وحضورًا آسراً. كان التداخل بين الصراع والحوار مدروسًا بدقة، ما جعل الأداء ينبض بالحياة ويمنح العرض حيوية استثنائية.
حين غنّت فيروز… تغيّر الجو
جاء توظيف أغنية فيروز “آخر أيام الصيفية” لحظةً فارقة في العرض، حيث تحوّلت الموسيقى إلى لغةٍ ثالثة تجمع بين الصمت والكلمة. حين انطلقت الأغنية، تغيّر الجو العام للتلقي، وخيّم إحساس بالحنين والصفاء، وكأن الجمهور عاد إلى ذاكرته الخاصة. لقد كانت الأغنية جسرًا عاطفيًا بين الخشبة والجمهور، ومنحت العرض نغمة إنسانية شفافة، تُذكّر بأن الجمال قادر على مداواة القسوة ولو للحظة.
إخراج بسيط وذكي
اختار المخرج البساطة سبيلاً للتعبير، فجعل من الديكور المحدود فضاءً نفسيًا غنيًا بالرموز. تنقّل العرض بين الأزمنة والمشاعر بسلاسة، برغم بعض البطء في مشاهد الحوار الممتدة. أما الإضاءة فكانت أداة بصرية تعبّر عن التحول الداخلي للشخصيات، وإن كانت بعض الانتقالات الزمنية بحاجة إلى وضوح أكبر.
الشخصية الثالثة… الحاضر الغائب
ظهرت الشخصية الثالثة بوصفها رمزًا للضمير أو للذاكرة الجمعية، ولم يكن حضورها الدرامي قوياً بقدر رمزيتها التي ظلت ترافق المشهد كصدى إنساني لما تبقى من الحلم. وجودها كان بمثابة خيطٍ يربط الشخصيتين الرئيسيتين بظلّ المجتمع الأوسع، لكنها احتاجت إلى حضور فعّال أعمق لتكتمل دلالتها.
واقعية الموضوع وجمال التوصيل
يحسب للعرض قدرته على محاكاة واقع أغلب العائلات العربية التي تبحث عن الأمان في بيتٍ صغير، عن دفءٍ وسط البرد الإنساني، وعن لحظة حبّ في زمن الحاجة. هذا الصدق الواقعي جعل الجمهور يعيش العرض لا يشاهده فقط، ويتفاعل مع تفاصيله بعمق وتعاطف.
لقد أحسن مهرجان بغداد الدولي للمسرح في اختياره لهذا العرض، لأنه لا يقدّم متعة جمالية فحسب، بل يقدّم درسًا في الإنسانية والتواصل. عروض كهذه ترفع من مستوى الذائقة المسرحية لدى الجمهور، وتعيد المسرح إلى جوهره النبيل كفنّ يحاور الإنسان وواقعه، لا كوسيلة للتسلية العابرة. إن حضور مثل هذه الأعمال في مهرجان بغداد يؤكد أن العاصمة ما زالت تنبض بالمسرح والفكر والجمال، وأن العراق، برغم كل التحديات، ما زال قادرًا على أن يكون منبرًا عربيًا حقيقيًا للمسرح الجاد والمضيء.
خاتمة
مسرحية (نشرب إذن) ليست مجرّد عرض مغربي جميل، بل هي تجربة شعورية غنية تمزج بين الألم والحنين، بين العطش المادي والعطش الروحي.إنها تذكير صادق بأننا جميعًا ما زلنا نبحث عن بيتٍ صغير نملأه دفئًا، وعن لحظة حبّ خالدة، وعن أغنية فيروزية تذكّرنا بأن الحلم لا يموت… حتى في آخر أيام الصيفية.
كل التحية والتقدير إلى إدارة مهرجان بغداد الدولي للمسرح، وإلى وزارة الثقافة والسياحة والآثار، على ما بذلوه من جهد كبير في التنظيم، وحفاوة الاستقبال، وحرصهم على اختيار عروض تمسّ جوهر الإنسان وتفتح الأفق أمام التجريب المسرحي العربي المعاصر. إن مثل هذه المهرجانات هي التي تمنح الحياة الثقافية في العراق والعالم العربي نبضها المتجدد، وتؤكد أن المسرح ما زال بيتًا للجمال والتنوير.