في عالمٍ تُختزَل فيه الحياة بالمعادلات الرقمية والتقنيات الباردة، ويُدفع بالفن إلى هامش الفعل اليومي، يبقى المسرح عصيًّا على التهميش. إنه الفن الذي لا يمكن ترجمته إلى تقنيات او حصرة في بؤرة صغيرة ، لأنه يستدعي الإنسان بكامل حضوره ومصيره.
وإذا كان المسرح في جوهره مرآةً للواقع ونافذة على الممكن، فإن عودة مهرجان بغداد الدولي للمسرح من جديد ، وسط تعقيدات المرحلة السياسية والإجتماعية، تُعدّ عودة عميقة لمعنى “الروح” في قلب مدينة أنهكها التاريخ العنفي القريب.
ليس المهرجان احتفالًا بالعروض المسرحية فحسب، بل مشروعاً وطنياً وإنسانياً يُعيد لبغداد ـ وللعراق عموماً ـ مكانتهما كمنارة للفكر والإبداع، ويُفعّل المسرح كإعادة لبناء الإنسان والمجتمع بعد عقود من التشظي.
المسرح وإنتاج معنى الوعي حضاري
منذ نشأته في الطقوس الدينية والمواكب الشعبية، كان المسرح فعلاً اجتماعيًا مرتبطًا بالهوية والذاكرة والسلطة. عبر القرون، لم يتخلَّ عن دوره الأساسي: سبر أغوار الإنسان، وتحويل الأسئلة الكبرى إلى فعل درامي حي. المسرح يثير التساؤل لا الإجابة، يشعل القلق بدل الطمأنينة، ويحرّك العقول بدلاً من تخديرها. وفي أزمنة التزييف، تظل الخشبة مساحة للحقيقة.
والشئ المهم هو أن وظيفة المسرح ليست جمالية فقط، بل معرفية وتربوية أيضًا لذلك تُعتبر الفنون المسرحية من أهم الوسائط التعليمية الحديثة التي تُعوّل على الاندماج الوجداني والمعرفي لبناء وعي نقدي وشامل.
ولا يمكن لمجتمع أن يكون ديمقراطياً(ونحن نتحدث عنها كثيراً) دون أن يحتضن ثقافة الحوار والتعدد. والمسرح، بطبيعته، يُمثّل وجهات نظر متعددة، ويعرض التناقضات، ويُجسّد الصراعات دون فرض نهايات مغلقة. هو تدريب يومي على قبول المختلف، والانحياز للإنسان، ومواجهة الأسئلة التي تُقصيها السياسة خوفاً من الحقيقة .
وكان المسرح العراقي دائمًا في قلب العاصفة. في كل مرحلة من تاريخ العراق الحديث، ظل المسرح حاضراً كمنصة نقد، ومحفز وعي، ومأوى للفكر الحر.
فما يُميّز التجربة المسرحية العراقية أنها لم تخضع للرقابة فحسب، بل واجهت القمع، والتمويل الشحيح، والرقابة المجتمعية ، ورغم ذلك ولدت تجارب تجريبية عميقة في الإخراج والتمثيل والكتابة، كان فيها المسرح ساحة فكر وليست مجرد خشبة أداء.من هنا تأتي أهمية مهرجان بغداد الدولي ودوره في تطوير المسرح العراقي .
مهرجان بغداد الدولي — أكثر من تظاهرة فنية
ليس من قبيل المصادفة أن يُقام هذا المهرجان في بغداد من جديد كإعلان حضاري مفاده أن العراق لا يُختزل بالسياسة، بل يجب أن يُحتفى به كأرض ولادة، وتنوير، وتجدد، لأن المهرجان يُمثّل عودة الروح إلى عاصمة الإبداع العربي، مدينة الشعر والفلسفة والمسرح، التي قاومت الموت بالفن، والخراب بالجمال وتجلت فيها روح الانسان العراقي النبيل .
ولهذا لا يُقدم المهرجان عروضًا فنية فحسب، بل يُعيد بناء الثقة الثقافية، ويؤسس لحركة مسرحية جديدة أكثر تحرراً، وتنوعاً، وعمقًاً.
فمن خلال التغطية الإعلامية، والتمويل المؤسسي، وتشجيع تعدد التجارب ،وخلق ثقافة مسرحية إنسانية ،والتي تعتبر من أهداف المهرجان مما أدى الى أن كثير من الشباب المسرحي اليوم يُعيدون اكتشاف المسرح بوصفه مساراً مهنياً حقيقيًا، لا هواية جانبية.
الجمهور العراقي ـ الشريك المتفاعل
واحدة من أعظم مفاجآت مهرجان بغداد الدولي هي الحضور الجماهيري الكبير للعروض. في بلدٍ أنهكه الخطاب السياسي، والأزمات المتكررة ، وخرّب الإعلام وعيه الجَمالي، يأتي الجمهور إلى المسرح ليس فقط لمشاهدة عرض، بل للاشتراك في لحظة صدق إنساني.
الجمهور العراقي، المُنهك من التكرار، الباحث عن العمق، وجد في المسرح منصة حوار حقيقي، لا يُملى عليه من فوق، ولا يُفرض عليه من الخارج. وهنا، يُعيد المسرح جمهوره ليكون فاعلًا، ناقداً، شريكاً في صناعة المعنى، وعلينا أن نحترم عقله دائماً.
فمهرجان المسرح في دورته هذه يُعيد تعريف مفهوم التأثير الثقافي، لأن العراق يُريد أن يُخاطب العالم بلغة الفن، المسرح، والإنسان، وليس بلغات اخرى موست ضده أعوام عديدة، فهو حضارةٌ تُعاد كتابتها ببعدها الإنساني .نحن خَلقنا حضارات سابقة والأن يجب أن نعيد للعراق حضارته من جديد.
مهرجان بغداد كرافعة للثقافة المستدامة
اقترح على وزارة لاثقافة والمؤسسات الداعمة أن تجعل من مهرجان بغداد الدولي للمسرح بصيغته هذه رافعة مستدامة لثقافة عراقية حيّة، من خلال :
إدماج المهرجان في سياسة ثقافية وطنية واضحة.
تعزيز الشراكة مع الجامعات والمعاهد الفنية.
أرشفة العروض وفتح بوابات بحثية أكاديمية.
دعم الفِرَق المحلية للمشاركة دوليًا.
إشراك القطاع الخاص في التمويل والرعاية.
المهرجان الناجح لا يُقاس بعدد الحضور فقط، بل بما يتركه من أثر في البنية الثقافية الوطنية.
إذن الخلاصة هي: أن بلداً مثل العراق، غالبًا ما يُنظر إلى “البناء” كفعل هندسي أو أمني،وهنا يأتي المسرح ليُذكّرنا بأن بناء الإنسان أسبق من بناء المدينة ، إذن نحو عراق يبنيه العقل والفكر المسرحي كما يبنيه عقل المهندس.