في بغداد حيث تتقاطع الأزمنة كما تتقاطع الأنهار، عاد المسرح ليعلن حضوره لا كعرضٍ عابر بل كأفقٍ مضيء يتجدّد ويتسع للمشهد المسرحي العالمي. حيث تنطلق فعاليات الدورة السادسة من مهرجان بغداد الدولي للمسرح في خلال الفترة من 10 إلى 16 أكتوبر 2025. بتنظيم مشترك بين دائرة السينما والمسرح ونقابة الفنانين العراقيين برئاسة ( الدكتور جبار جودي ) ، على خشبات مسارح بغداد: المسرح الوطني، مسرح الرشيد، ومسرح المنصور.
العروض القادمة من أقاصي الأرض، تنساب لتكتب عن الإنسان، عن الحرب، عن المنفى، عن الحرية المؤجلة، تنسج ألوانًا متعددة، لغات متباينة، لكن الروح واحدة، والنار واحدة، كأن العاصمة اختزلت خريطة المسرح العالمي في فضائها، لتصبح ملتقى للخبرة والخيال، حيث ينصهر المختلف ليولد معنىً مشتركًا..
إنّ انتقاء العروض المشاركة هذا العام لم يكن محكوماً فقط بالمعايير الجمالية، بل أيضاً بالرهان على حضور موضوعات تتقاطع عند الإنسان المعاصر: قضايا الهجرة والاقتلاع، أثر الحروب على الذاكرة الجمعية، نقد السلطة والتفاوت الاجتماعي، وقلق الهوية في زمن التحولات. هذه المضامين المشتركة، رغم تباين المدارس الإخراجية، تتسق مع ما يسميه هومي بابا بـ “فضاء التهجين الثقافي” حيث تتقاطع التجارب وتعيد إنتاج معنى جديد يتشكل في تخوم التعدد.
ويتجلّى هذا البعد الكوني في العروض العالمية القادمة من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وأوكرانيا والهند وإيران، التي تأتي بأشكال أدائية مختلفة تجمع بين التجريب البصري والتقنيات الحديثة والتعبير الجسدي الكيروغرافي،مانحةً جمهور بغداد وضيوف المهرجان فرصة نادرة للاطلاع على تنويعات معاصرة من المسرح الأوروبي والآسيوي. أما العروض العربية من تونس والمغرب ولبنان والكويت وفلسطين والإمارات، فهي تقدّم مقترحات درامية تتقاطع مع هموم الإنسان العربي، من نقد الاستبداد إلى مساءلة الذاكرة الجماعية. هذا التنوع ليس هدفاً زخرفياً بقدر ما هو رهان على جعل بغداد ساحة للحوار المسرحي المنفتح. وهو ما يذكّر بمفهوم المسرح بوصفه “خطاباً عمومياً” كما يعرّفه يورغن هابرماس ، ما يجعل هذه العروض تلتقي في خطابها على أرضية مشتركة رغم تباعد سياقاتها الثقافية.
لكن القيمة المركزية للمهرجان لا تتأتى من العروض العالمية فحسب، بل من الحضور العراقي نفسه. إذ أثبتت العروض المحلية قدرتها على إنتاج خطاب مسرحي موازٍ، يتغذى من التجربة الاجتماعية والسياسية للبلاد، ويحوّلها إلى مادة جمالية ناقدة. لتؤكد على وظيفة المسرح في فضح التناقضات الاجتماعية”، حيث إنّ بعض العروض العراقية قدّمت مساءلات جريئة لذاكرة الحرب وحقوق المرأة وأحلام الشباب.
وهذا جلي في الأستراتيجية التي رسمتها المديرية العامة لدائرة السينما والمسرح عبر العناية بجودة الاختيارات، والانفتاح على التجارب العالمية، ما يجعل المهرجان كرنفالاً متكاملاً يتجاوز أطار الخشبة ليشمل فضاءات أوسع للحوار والإبداع.
وإذا كان المسرح العراقي قد شهد تنوّعاً في مدارسه، من الواقعية الاجتماعية إلى المسرح الملحمي، ومن التجريب الطليعي ومسرح الصورة إلى مسرح ما بعد الحداثة، فإنّ هذا التنوع ينعكس جليا في عروض هذا مهرجان. فالمسرحيات المشاركة كأنّها مرآة تعكس مدارس متشابكة: عروض أوروبية تمتح من الرمزية والإيماء الجسدي، وأخرى عربية مشغولة بالهوية والتحوّلات السياسية، وعروض عراقية تجريبية تحاول أن توازن بين شراسة الواقع وحلم الحرية. هذا التوازي يخلق ما يمكن أن نسمّيه «تناسجاً ثقافياً» وفق تعبير ريتشارد شيشنر؛ أي مساحة هجينة تتقاطع فيها الرموز والدلالات القادمة من خلفيات مختلفة، فتنتج معنى جديداً لا يُختزل في مرجع واحد، تُذكّرنا بأنّ المسرح لغة كونية، وبأنّ المعاناة ليست ملكاً لشعب دون آخر.
هذا التفاعل يضعنا أمام ما يسميه الباحث كليفورد غيرتز (التفسير الكثيف) للثقافات؛ فالعروض ليست مجرّد تبادل شكلي، بل هي تأويل متبادل بين النصوص والثقافات. بذلك، لن يكون المسرح في بغداد نسخة عن مسارح أوروبا، ولا هو انكفاءٌ على التراث وحده، بل سوف يغدو فضاءً لإنتاج معرفة جمالية جديدة، هجينة، تتغذى من منابع متعددة وتصبّ في نهر واحد هو نهر الإنسانية.
نعم ! أن مهرجان بغداد المسرحي ليس مجرد تجمع عابر للعروض، بل هو إعلان متجدد عن قدرة العاصمة على استعادة دورها الثقافي الطليعي، وعن إصرار لأن تكون ملتقى للأوطان التي نحملها في داخلنا وأقطاب العالم التي ننتظرها لتجتمع هنا على الخشبة. بهذا المعنى، فإن المهرجان يجمع بين الحلم والواقع، بين ما هو محلي متجذر في الذاكرة وبين ما هو كوني يسعى للانفتاح والتفاعل، ليؤكد أن المسرح في العراق لا يزال قادراً على إنتاج الدهشة وصياغة الأمل، وأن بغداد، برغم كل ما مرّ عليها، لا تزال قادرة على أن تجمعنا جميعاً في فضاء الفن والجمال, وأن يقدم صوته الخاص الغني بتجارب المعاناة والتجدد والإبداع.
جدير بالذكر أنّ هذه الدورة تشهد عودة مجلة ومنصّة”الخشبة”، التي يترأس تحريرها الفنان القدير حاتم عودة مدير المهرجان بما تحمله من تقاليد في النقد والتوثيق، لتكون امتداداً للخطاب الموازي الذي يثري التجربة المسرحية ويحولها إلى حقل للبحث لا مجرد فرجة. هذا الحضور النقدي يعيد للمهرجان بُعده التوثيقي والمعرفي، وهو ما يعزز من استدامته كحدث ثقافي.
وكوني مسرحي من كوردستان، لا يمكنني إغفال الغياب الملحوظ لعروض المسرح الكوردي، غياب يشكل ثغرةً واضحة في هذه الدورة ، إذ أنّ المسرح الكوردي يمثل أحد أهم روافد المشهد العراقي بتاريخه الغني وتجربته الفريدة، وبدونه تبقى صورة المشهد ناقصة والأمل معقود على أن تستدرك الدورات المقبلة هذا الغياب، وأن يُفتح الباب أمام مشاركة كوردية فاعلة بما يعزز صورة التنوع الثقافي العراقي ويثري التلاقي مع الآخر.
ولا أنسى الوقوف عند تكريم الفنان الدكتور ميمون الخالدي في هذه الدورة لما له من رمزية كبرى، فهو احدى القامات الوضاءة في المسرح العراقي و تكريمه ليس احتفاءً بشخصه فقط، بل هو إعلان عن الوفاء لجيل كامل آمن برسالة المسرح في أحلك الظروف، وحوّله إلى مرآة للوجدان الشعبي.
والمسك في التامل عند ذهنية ورؤية الفنان الدكتور جبار جودي رئيس المهرجان ونقيب الفنانين التي كشفت عن أفق جديد: رؤية لا تقف عند حدود التنظيم بل تسعى إلى تحويل المهرجان إلى مشروع ثقافي متكامل، حيث يصبح الحلم حقيقة والخيال واقعاً، وحيث تتحول بغداد من مدينة مثقلة باحزان الماضي إلى فضاءٍ يتسع لآمال المستقبل. فواضح ان هناك استراتيجية فنية معرفية ناضجة، تؤكّد أن المسرح العراقي على أعتاب عصر تجديدي يليق به وبتاريخه المشرق , إنّ آمال المستقبل التي يفتحها مهرجان بغداد المسرحي ليست قليلة: فهنا تتأسس إمكانية بناء منصّة إقليمية كبرى، تستقطب العروض النوعية من العالم. إنه مشروع ثقافي طويل الأمد بامكانه ان يعيد رسم خريطة المشهد الفني العراقي والعربي، وأن يجعل من بغداد محطةً لاجتماع ثقافات العالم على خشبةٍ واحدة. ويضع المهرجان في موقعه الريادي بين أهم المهرجانات المسرحية الدولية ,ليبرهن على انتقاله من كونه فعالية احتفالية إلى منصة معرفية جادة، تعيد للعاصمة العراقية مكانتها بوصفها “مدينة المسرح العربي” كما نعتها سعد الله ونوس.
- مخرج مسرحي من كوردستان – العراق